فصل: تفسير الآية رقم (139):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: محاسن التأويل



.تفسير الآية رقم (139):

القول في تأويل قوله تعالى: {قُلْ أَتُحَآجُّونَنَا فِي اللّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ} [139].
{قُلْ} منكراً لمحاجتهم وموبِّخاً لهم عليها: {أَتُحَآجُّونَنَا فِي اللّهِ} أي: أتناظروننا في توحيد الله والإخلاص له واتباع الهدى وترك الهوى: {وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ} المستحق لإخلاص العبودية له وحده لا شريك له، ونحن وأنتم في العبودية له سواء: {وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ} أي: نحن برآء منكم ومما تعبدون، وأنتم برآء منا. كما قال في الآية الأخرى: {وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ} [يونس: 41]. وقال تعالى: {فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ} [آل عِمْرَان: 20] الآية {وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُون} في العبادة والتوجيه، لا نشرك به شيئاً، وأنتم تشركون به عزيراً والمسيح والأحبار والرهبان. ولمَّا بقي من مباهتاتهم ادعاؤهم أن أسلافهم كانوا على دينهم، أبطلها سبحانه بقوله:

.تفسير الآية رقم (140):

القول في تأويل قوله تعالى: {أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأسْبَاطَ كَانُواْ هُوداً أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ اللّهِ وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [140].
{أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ} خليل الله: {وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ} ابنيه: {وَيَعْقُوبَ} ابن إسحاق: {وَالأسْبَاطَ} أولاد يعقوب: {كَانُواْ هُوداً أَوْ نَصَارَى} أي: على ملتهم، إما اليهودية وإما النصرانية: {قُلْ أَأَنتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللّهُ} أي: الذي له الإحاطة كلها أعلم. فلا يمكنهم أن يقولوا: نحن. وإن قالوا: الله، فقد برأ الله إبراهيم ومن معه من ذلك. فبطل ما ادعوا، وثبت أنهم، عليهم السلام، كانوا على الحنيفية مسلمين مبرَّئين عن اليهودية والنصرانية، هذا مع أن ردَّ قولهم هذا أظهرُ ظاهرٍ من حيث إنه لا يعقل أن يكون السابقُ على نسبة للآحق، ما حدثت إلا بعده بمدد متطاولة. وسيأتي النص الصريح بإبطال ذلك في آل عِمْرَان. ولما كان العلم عندهم عن الله بأن الخليل ومن ذكر معه، عليهم السلام، على دين الإسلام، وكانوا يكتمون ما عندهم من ذلك، مع تقرير الله لهم به واستخبارهم عنه ونهيه لهم عن كتمانه وما يقاربه بقوله: {وَلا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ} [البقرة: 42] الآية أشار إلى أشد الوعيد في كتمان ذلك بقوله: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَتَمَ شَهَادَةً} موجودة وموعودة: {عِندَهُ مِنَ اللّهِ} وهو كتمان العلم الذي هو الإخبار بما أنزل الله. والاستفهام إنكار لأن يكون أحدٌ أظلم من أهل الكتاب حيث كتموا شهادته تعالى لهم، عليهم السلام، بالحنيفية والبراءة من الفريقين.
قال التقيَ ابن تيمية: سمى تعالى ما عندهم من العلم شهادة كما قال: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} [البقرة: 159] الآية، كأنه قال: خبراً عنده، ديناً عنده من الله، وبياناً عنده من الله، فإن كان قوله: {مِنَ اللَّهِ} متعلقا ًب-: {كتم} فإنه يعم كل الشهادات. وإن كان متعلقاً بـ: {عنده}، وهو الأوجه، أو بشهادة، أو بهما، فإن الأمر في ذلك واحد، أي: شهادة استقرت عنده من جهة الله. فهو كتمان شهادات العلم الموروث عن الأنبياء، فسمى الإخبار به شهادة.
ثم قال: وكذلك الأخبار النبوية إنما يراد بالشهادة فيها الإخبار: {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} [البقرة: 74] تهديد ووعيد شديد، أي: أن علمه محيط بكم وسيجزيكم عليه.
قال الرازيّ: هذا هو الكلام الجامع لكل وعيد، ومن تصور أنه تعالى عالم بسره وإعلانه، ولا يخفى عليه خافية، وأنه من وراء مجازاته، إن خيراً فخير، وإن شرّاً فشر لا يمضى عليه طرفة عين إلا هو حذر خائف، ألا ترى أن أحدنا لو كان عليه رقيب من جهة سلطان يعدّ عليه الأنفاس، لكان دائم الحذر والوجل، مع أن ذلك الرقيب لا يعرف إلا الظاهر، فكيف بالرب الرقيب الذي يعلم السر وأخفى، إذا هدد وأوعد بهذا الجنس من القول؟

.تفسير الآية رقم (141):

القول في تأويل قوله تعالى: {تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُم مَّا كَسَبْتُمْ وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [141].
{تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ} فلا يسألون عن أعمالكم: {وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} لما ذكر تعالى حسن طريقة الأنبياء المتقدمين، ولم يدع لهم متمسكاً من جهتهم، أتبع ذلك الإشارة إلى أن الدين دائر مع أمره في كل زمان. وأنه لا ينفعهم إلا ما يستجدّونه بحكم ما تجدد من المُنْزَل المعجز لكافة أهل الأرض، أحمرهم وأسودهم... أي: فعليكم بترك الكلام في تلك الأمة، فلها ما كسبت، وانظروا فيما دعاكم إليه خاتم النبيين محمد صلى الله عليه وسلم، فإن ذلك أنفع لكم وأعود عليكم، ولا تُسألون إلا عن عملكم.
قال الراغب: إعادة هذه الآية من أجل أن العادة مستحكمة في الناس، صالحهم وطالحهم أن يفتخروا بآبائهم ويقتدوا بهم في متحرياتهم لاسيما في أمور دينهم.
ولهذا حكى عن الكفار قولهم: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ} [الزخرف: 22]. فأكد الله تعالى القول في إنزالهم عن هذه الطريقة، وذكر في أثر ما حكى من وصية إبراهيم ويعقوب بنيه بذلك، تنبيهاً أن الأمر سواء على ما قلت أو لم يكن، فليس لكم ثواب فعلهم ولا عليكم عقابه، وفي الثاني لما ذكر ادعاءهم اليهودية والنصرانية لآبائهم أعاد أيضاً تأكيداً عليهم تنبيهاً على نحو ما قال: {وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ} [الإسراء: 13]، وقوله: {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ} [البقرة: 286]، وقوله: {وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} [الأنعام: 164] ولما جرت به عادتهم وتفردت به معرفتهم، كل شاة تناط برجليها.

.تفسير الآية رقم (142):

القول في تأويل قوله تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا قُل لِّلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} [142].
{سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} روى البخاريّ في صحيحه عن البراء رضي الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى إلى بيت المقدس ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه أن تكون قبلته قِبَلَ البيت، وأنه صلى أول صلاة صلاها، صلاة العصر وصلى معه قوم، فخرج رجل ممن كان صلى معه فمرّ على أهل المسجد وهم راكعون، فقال: أشهد بالله لقد صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم قِبَلَ مكة، فداروا كما هم قِبَلَ البيت.
وروى مسلم: عن البراء رضي الله عنه نحو ما تقدم ولفظه: صلينا مع رسول. الله صلى الله عليه وسلم نحو بيت المقدس ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً، ثم صرفنا نحو الكعبة.
وروى الشيخان ابن عمر قال: بينا الناس بقباء في صلاة الصبح إذ جاءهم آت فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنزل عليه الليلة قرآن. وقد أمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها، وكانت وجوهم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة. اللفظ لمسلم.
والأحاديث في تحويل القبلة من القدس إلى الكعبة متوافرة، وفيما ذكرنا كفاية.
وقد أعلم الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أن فريقاً من الناس سينكرون تغيير القبلة وسماهم سفهاء، جمع سفيه، وهو الخفيف الحلم والأحمق والجاهل. قال أبو السعود: أي: الذين خفّت أحلامهم واستمهنوها بالتقليد والإعراض عن التدبر والنظر. انتهى.
ومعنى قوله: {مَا وَلَّاهُمْ} أي: أي: شيء صرفهم عن قبلتهم التي كانوا عليها، أي: ثابتين على التوجه إليها، وهي بيت المقدس. ومدار الإنكار، إن كان القائلون هم اليهود، كراهتهم للتحويل عنها لأنها قبلتهم، وإن كان غيرهم، فمجرد القصد إلى الطعن في الدين والقدح في أحكامه. وقد روي عن ابن عباس: أن القائلين هم اليهود، وعن الحسن أنهم مشركو العرب. وعن السدي أنهم المنافقون.
قال الراغب: ولا تنافي بين أقوالهم فكل قد عابوا، وكلٌّ سفهاء.
تنبيه:
ظاهر قوله تعالى: {سَيَقُولُ السُّفَهَاء} الخ، أنه إخبار بقولهم المذكور، ثم إن الإخبار قبل وقوعه، وفائدته توطين النفس وإعداد ما يبكتهم، فإن مفاجأة المكروه على النفس أشق وأشد، والجواب العتيد الشغب الخصم الألد أردّ، مع ما فيه من دلائل النبوة حيث يكون إخباراً عن غيب، فيكون معجزاً: {قُل لِّلّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ} جواب عن شبهتهم، وتقريره أن الجهات كلها لله ملكاً، فلا يستحق شيء منها لذاته أن يكون قبلة. بل إنما تصير قبلة لأن الله تعالى جعلها قبلة، فلا اعتراض عليه بالتحويل من جهة إلى أخرى، وما أمر به فهو الحق: {يَهْدِي مَن يَشَاء إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} فيه تعظيم أهل الإسلام وإظهار عنايته تعالى بهم، وتفخيم شأن الكعبة. كما فخمه بإضافته إليه في قوله تعالى: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ} [الحج: 26].

.تفسير الآية رقم (143):

القول في تأويل قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} [143].
{وَكَذَلِكَ} أي: كما هديناكم إلى قبلة هي أوسط القِبل وأفضلها: {جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} أي: عدولاً، خياراً، وقوله تعالى: {لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} تعليل للجَعْل المنوه به الذي تَمَّتْ المنة به عليهم. واعلم أن أصل الشهود والشهادة الحضور مع المشاهدة، إما بالبصر أو بالبصيرة. قال الرازي: الشهادة والمشاهدة والشهود هو الرؤية، يقال شاهدت كذا إذا رأيته وأبصرته، ولما كان بين الإبصار بالعين، وبين المعرفة بالقلب مناسبة شديدة، لا جرم قد تسمى المعرفة التي في القلب مشاهدة وشهوداً، والعارف بالشيء شاهداً ومشاهداً، ثم سميت الدلالة على الشيء شاهداً على الشيء؛ لأنها هي التي بها صار الشاهد شاهداً. ولما كان المخبر عن الشيء والمبيّن لحاله جاريًا مجرى الدليل على ذلك، سمي ذلك المخبر أيضاً شاهداً. وبالجملة، فكل من عرف حال شيء، وكشف عنه كان شاهداً عليه. انتهى.
والشهيد أصله الشاهد والمشاهد للشيء والمخبر عن علم حصل بمشاهدة بصرٍ أو بصيرة. وهو، بالمعنى الثالث، من النعوت الجليلة. ولذلك وصف به النبيون والسادة والأئمة. كما ترى في هذه الآية وفي آية: {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً} [النساء: 41] وآية: {وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ} [البقرة: 23]: {وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ} [النساء: 69]، ثم إن في اللام في قوله تعالى: {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} وجهين:
الأول: إنها لام الصيرورة والعاقبة، أي: فآل الأمر بهدايتكم وجعلكم وسطاً أن كنتم شهداء على الناس، وهم أهل الأديان الأخر، أي: بصراء على كفرهم بآيات الله وما غيروا وبدلوا وأشركوا وألحدوا، مما قص عليكم في الآيات قبل، حتى أحطتم به خبراً، فعرفتم حق دينهم من باطله، ووحيه من مخترعه.
يعني: وإذا شهدتم ذلك منهم وأبصرتم فاشكروا مولاكم على ما أولاكم، وعافكم مما ابتلى به سواكم، حيث وفقكم للمنهج السويّ وهداكم للمهيع الرضي، وذلك صار الرسول عليكم شهيداً بأنكم عرفتم الحق من الباطل، والهدى من الضلال، والنور من الظلمات، بما بلغكم من وحيه وأراكم من آياته. فعظمت المنة لله عليكم؛ إذ أصبحتم مهتدين بعد الضلالة، علماء بعد الجهالة. ففيه إشارة إلى تحذير المؤمنين من أن يزيغوا بعد الهدى، كما زاغ أولئك الذين نعى عليهم ضلالتهم، فتقوم عليهم الحجة كما قامت من أولئك.
الوجه الثاني: أن تكون اللام للتعليل، على أصلها. والمعنى: جعلناكم أمة خياراً لتكونوا شهداء على الناس، أي: رقباء قُوَّاماً عليهم بدعائهم إلى الحق، وإرشادهم إلى الهدى وإنذارهم مما هم فيه من الزيغ والضلال، كما كان الرسول شهيداً عليكم بقيامه عليكم بما بلغكم وأمركم ونهاكم وحذركم وأنذركم. فتكون الآية نظير آية: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [آل عِمْرَان: 110]، وربما آثر هذا المعنى من قال: خير ما فسِّر القرآن بالقرآن، لتماثل الآيتين بادئ بدء، فإن الوسط بمعنى الخيار. وقد صرح به في قوله: {خَيْرَ أُمَّةٍ} وإلى هذا المعنى يشير قول مجاهد في الآية: لتكونوا شهداء لمحمد عليه السلام على الأمم اليهود والنصارى والمجوس: أي: شهداء على حقية رسالته، وذلك بالدعوة إليها، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر الذي هو قطب الدعوة وروحها.
وبعد كتابة هذا رأيت السمرقنديّ في تفسيره نقل خلاصة ما قلناه، وعبارته: وللآية تأويل آخر: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} أي: عدولاً: {لتكونوا شهداء على الناس} إلخ يقول: إنكم حجة على جميع من خالفكم، ورسول الله عليه السلام حجة عليكم. والشهادة في اللغة هو البيان ولهذا سمي الشاهد بينة؛ لأنه يبيّن حق المدعي، يعني إنكم تبينون لمن بعدكم، والنبيّ عليه السلام يبين لكم. انتهى.
وأوضح ذلك الراغب الأصفهاني: بأسلوب آخر فقال: إن قيل: على أي: وجه شهادة النبي صلى الله عليه وسلم على الأمة وشهادة الأمة على الناس؟ قيل: الشاهد هو العالم بالشيء المخبر عنه مثبتاً حكمه، وأعظم شاهد من ثبت شهادته بحجة، ولما خص الله تعالى الْإِنْسَاْن بالعقل، والتمييز بين الخير والشر، وكمله ببعثة الأنبياء، وخصّ هذا الأمة بأنم كتاب، كما وصفه بقوله: {مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 38]. وقوله: {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ} [النحل: 89]، فأفادناه عليه السلام وبينه لنا- صار حجة وشاهداً أن يقولوا: {مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلا نَذِيرٍ} [المائدة: 19]. وجعل أمته، المتخصصة بمعرفته، شهوداً على سائر الناس.
إن قيل: هل أمته شهود كلهم أم بعضهم؟ قيل: كلهم ممكن من أن يكونوا شهداء؛ وذلك بشريطة أن يزكوا أنفسهم بالعلم والعمل الصالح، فمن لم يزك نفسه لم يكن شاهداً ومقبولاً. ولذلك قال تعالى: {قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا} [الشمس: 9] وعلى هذا قال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [النساء: 135]، فالقيام بالقسط مراعاة العدالة، وهي بالقول المجمل ثلاث: عدالة بين الْإِنْسَاْن ونفسه، وعدالة بينه وبين الناس، وعدالة بينه وبين الله عز وجل. فمن رعى ذلك فقد صار عدلاً شاهداً لله عز وجل.
إن قيل: فهل هم شهود على بعض الأمة أم على الناس كافة؟ قيل: بل كلُّ شاهد نفسه، وعلى أمته، وعلى الناس كافة، فإن من عرف حكمة الله تعالى وجوده، وعدله، ورأفته، علم أنه لم يغفل تعالى عنه، ولا عن أحد من الناس، ولا بخل عليهم ولا ظلمهم، ومن علم ذلك فهو شاهد لله على من في زمانه، وعلى من قبله ومن بعده، وعلى هذا الوجه ما روي في الخبر: «أن هذه الأمة تشهد للأنبياء على الأمم». انتهى كلام الراغب.
والخبر الذي أشار إليه رواه البخاري عن أبي سعيد الخدريّ رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يدعى نوح يوم القيامة فيقول: لبيك وسعديك يا رب. فيقول: هل بلغتَ؟ فيقول: نعم. فيقال لأمته: هل بلَّغكم؟ فيقولون: ما أتانا من نذير. فيقول: من يشهد لك؟ فيقول: محمد وأمته. فيشهدون أنه قد بلغ ويكون الرسول عليكم شهيداً». فذلك قوله جل ذكره: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً}. وقد روي مرفوعاً عن جابر. أخرجه الطبري. وعن ثلة من التابعين من قولهم.
وأقول: قد بينا مراراً، أن مثل هذا الخبر وكل ما يروى مرفوعاً أو غير مرفوع في تأويل هذه الآية، فكله يفيد أن للآية عموماً يشمل ما ذكر، لا أنها خاصة به لا يستفاد منها غيره. كما أوضحناه في المقدمة في قولهم: نزلت الآية في كذا، وعليه فلا تنافي بين ما يفهم من سياق الآية أو ما يتقاضاه معناها لغة، من حيث عمومها، أو ما يحمل عليها من نظائرها في التنزيل الكريم، وبين ما يروى في تفسيرها، فمآل ما يتعدد من سبب النزول في آية ما، أو ما يكثر من الآثار في وجوهها، كله من باب تفسير العامّ ببعض ما يتناوله لفظه. ولذلك يكثر في بعض طرق الروايات. ثم تلا النبي صلى الله عليه وسلم قوله تعالى، أو: ثم قرأ. أو: اقرأوا إن شئتم. مما يدل على أنه ذكرتْ الآية حجة لما أخبر به؛ لأنه مما يندرج فيها. فاحرص على ذلك.
تنبيهات:
الأول: استدل بالآية على أن الإجماع حجة؛ لأن الله تعالى وصف هذه الأمة بالعدالة. والعدل هو المستحق للشهادة وقبولها، فإذا اجتمعوا على شيء وشهدوا به لزم قبوله، فإجماع الأمة حق؛ لا تجتمع الأمة- والحمد لله- على ضلالة. كما وصفها الله بذلك في الكتاب فقال تعالى: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [آل عِمْرَان: 110]، وهذا وصف لهم بأنهم يأمرون بكل معروف، وينهون عن كل منكر، كما وصف نبيهم صلى الله عليه وسلم بذلك في قوله: {الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ} [الأعراف: 157]، وبذلك وصف المؤمنين في قوله: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} [التوبة: 71]، قلو قالت الأمة في الدين بما هو ضلال، لكانت لم تأمر بالمعروف في ذلك، ولم تنه عن المنكر فيه، وقد جعلهم الله شهداء على الناس، وأقام شهادتهم مقام شهادة الرسول. وقد ثبت في الصحيح عن عبد العزيز بن صهيب قال: سمعت أنس بن مالك رضي الله عنه فيقول: مروا بجنازة فأثنوا عليها خيراً فقال النبي صلى الله عليه وسلم «وجبت» ثم مروا بأخرى فأثنوا عليها شراً فقال «وجبت». فقال عُمَر بن الخطاب رضي الله عنه: ما وجبت؟ قال: «هذا أثنيتم عليه خيراً فوجبت له الجنة، وهذا أثنيتم عليه شراً فوجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض».
وعند الحاكم أنه قرأ هذه الآية: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ} إلى آخرها.
فإذا كان الرب قد جعلهم شهداء، لم يشهدوا بباطل، فإذا شهدوا أن الله أمر بشيء، فقد أمر به، وإذا شهدوا أن الله نهى عن شيء فقد نهى عنه، ولو كانوا يشهدون بباطل أو خطأ لم يكونوا شهداء الله في الأرض. بل زكاهم الله في شهادتهم، كما زكى الأنبياء فيما يبلّغون عنه أنهم لا يقولون عليه إلا الحق، وكذلك الأمة لا تشهد على الله إلا الحق.
هذه نبذة من كلام الإمام ابن تيمية عليه الرحمة، في الإجماع، من بعض رسائله.
الثاني: مما يتعلق أيضاً بهذا المقام، ما قاله أيضاً هذا الإمام في رسالته إلى جماعة عدي بن مسافر. ونصه: فعصم الله هذه الأمة أن تجتمع على ضلالة، وجعل فيها من تقوم به الحجة إلى يوم القيامة، ولهذا كان إجماعهم حجة، كما كان الكتاب والسنة حجة. ولهذا امتاز أهل الحق من هذه الأمة بالسنة والجماعة، عن أهل الباطل الذين يزعمون أنهم يتبعون الكتاب، ويعرضون عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعما مضت عليه جماعة المسلمين، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم من وجوه متعددة، رواها عنه أهل السنن والمسانيد. كالإمام أحمد، وأبي داود، والترمذي وغيرهم، أنه قال: «ستفترق هذه الأمة على اثنتين وسبعين فرقة، كلها في النار، إلا واحدة، وهي الجماعة». وفي رواية: «من كان على مثل ما أنا عليه اليوم، وأصحابي». وهذه الفرقة الناجية أهل السنة. وهم وسط في النِّحل، كما أن ملة الإسلام وسط في الملل، فالمسلمون وسط في أنبياء الله، ورسله، وعباده الصالحين، لم يغْلوا فيهم كما غلت في النصارى فـ: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [التوبة: 31]. ولا جَفَوْا عنهم، كما جفت اليهود، فكانوا يقتلون الأنبياء بغير حق: {وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ} [آل عِمْرَان: 21]. و{كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ} [المائدة: 70] بل المؤمنون آمنوا برسل الله، وعزروهم، ونصروهم، ووقروهم، وأحبوهم، وأطاعوهم، ولم يعبدوهم، ولم يتخذوهم أرباباً. كما قال تعالى: {مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيَهُ اللّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُواْ عِبَاداً لِّي مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُواْ الْمَلاَئِكَةَ وَالنِّبِيِّيْنَ أَرْبَاباً أَيَأْمُرُكُم بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ} [آل عِمْرَان: 79- 80]. ومن ذلك أن المؤمنين توسطوا في المسيح، فلم يقولوا: هو الله، ولا ابن الله، ولا ثالث ثلاثة. كما تقوله النصارى. ولا كفروا به، وقالوا على مريم بهتاناً عظيماً، حتى جعلوه، ولدَ غيّة، كما زعمت اليهود. بل قالوا: هذا عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول، وروح منه. وكذلك المؤمنون وسط في شرائح دين الله، فلم يحرّموا على الله أن ينسخ ما شاء، ويمحو ما شاء ويثبت. كما قالته اليهود. كما حكى الله تعالى ذلك عنهم بقوله: {سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} [البقرة: 142]، وبقوله: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِمَا مَعَهُمْ} [البقرة: 91]، ولا جوّزوا لأكابر علمائهم وعبّادهم أن يغيّروا دين الله، فيأمروا بما شأؤوا وينهوا عما شأؤوا. كما يفعله النصارى، كما ذكر الله عنهم بقوله: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ} [التوبة: 31].
قال عديّ بن حاتم رضي الله عنه: قلت: يا رسول الله ما عبدوهم؟ قال: «ما عبدوهم، ولكن أحلوا لهم الحرام فأطاعوهم، وحرموا عليهم الحلال فأطاعوهم». والمؤمنون قالوا: لله الخلق والأمر. فكما لا يخلق غيره، لا يأمر غيره. وقالوا: سمعنا وأطعنا، فأطاعوا كل ما أمر الله به. وقالوا: إن الله يحكم ما يريد. وأما المخلوق، فليس له أن يبدل أمر الخالق تعالى، ولو كان عظيماً. وكذلك في صفات الله تعالى، فإن اليهود وصفوا الله تعالى بصفات المخلوق الناقصة، فقالوا: هو: {فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ} [آل عِمْرَان: 181]. وقالوا: {يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ} [المائدة: 64]. وقالوا: إنه تعب من الخلق فاستراح يوم السبت. إلى غير ذلك. والنصارى وصفوا المخلوق بصفات الخالق المختصة به. فقالوا إنه يخلق ويرزق، ويرحم ويتوب على الخلق، ويثيب ويعاقب. والمؤمنون آمنوا بالله سبحانه وتعالى، ليس له سمي ولا ندٌّ {وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ} [الإخلاص: 4]. و{لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [الشورى: 11]، فإنه رب العالمين، وخالق كل شيء، وكل ما سواه عَبَّاد له، فقراء إليه.
{إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْداً} [مريم: 93- 95]، ومن ذلك: أمر الحلال والحرام، فإن اليهود كما قال تعالى: {فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ} [النساء: 160]، فلا يأكلون ذوات الظفر مثل الإبل والبط، ولا شحم الثَّرْب- الثَّرْب: شحم رقيق يغشى الكَرِش والأمعاء، وجمعه ثروب- والكليتين، ولا الجدي في لبن أمه، إلى غير ذلك، مما حرم عليهم من الطعام واللباس وغيرهما، حتى قيل: إن المحرمات عليهم ثلاثمائة وستون نوعاً، والواجب عليهم مائتان وثمانية وأربعون أمراً، وكذلك شدد عليهم في النجاسات حتى لا يواكلوا الحائض، ولا يجامعوها في البيوت.
وأما النصارى فاستحلوا الخبائث وجميع المحرمات، وباشروا جميع النجاسات، وإنما قال لهم المسيح: {وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ} [آل عِمْرَان: 50]. ولهذا قال تعالى: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التوبة: 29].
وأما المؤمنون فكما نعتهم الله به في قوله: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [الأعراف: 156- 157].
وهذا باب يطول وصفه، وهكذا أهل السنة والجماعة في الفِرق، فهم في باب أسماء الله وآياته وصفاته، وسط بين أهل التعطيل، الذين يلحدون في أسماء الله وآياته، ويعطلون حقائق ما نَعَتَ الله به نفسه حتى يشبهونه بالعدم والموات، وبين أهل التمثيل الذين يضربون له الأمثال ويشبهونه بالمخلوقات. فيؤمن أهل السنة والجماعة بما وصف الله به نفسه، وما وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم، من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف وتمثيل، وهم في باب خلْقه وأمره وسط بين المكذبين بقدرة الله، الذين لا يؤمنون بقدرته الكاملة ومشيئته الشاملة وخلقه لكل شيء، وبين المفسدين لدين الله الذين يجعلون العبد ليس له مشيئة ولا قدرة ولا عمل، فيعطون الأمر، والنهي، والثواب، والعقاب، فيصيرون بمنزلة المشركين الذين قالوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ} [الأنعام: 148] فيؤمن أهل السنة بأن الله على كل شيء قدير. فيقدر أن يهدي العباد، ويقلب قلوبهم، وإنه ما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن، فلا يكون في ملكه ما لا يريد، ولا يعجز عن إنفاذ مراده، وإنه خالق كل شيء من الأعيان والصفات والحركات، ويؤمنون أن العبد له قدرة ومشيئة وعمل، وأنه مختار، ولا يسمونه مجبوراً؛ إذ المجبور من أكره على خلاف اختياره، والله سبحانه جعل العبد مختاراً لما يفعله، فهو مختار مريد، والله خالقه وخالق اختياره، وهذا ليس له نظير. فإن الله ليس كمثله شيء لا في ذاته ولا في صفاته ولافي أفعاله.
وهم في باب الأسماء والأحكام والوعد والوعيد، وسط بين الوعيدية الذين يجعلون أهل الكبائر من المسلمين مخلدين في النار، ويخرجونهم من الإيمان بالكلية، ويكذبون بشفاعة النبي صلى الله عليه وسلم. وبين المرجئة الذين يقولون: إيمان الفساق مثل إيمان الأنبياء، والأعمال الصالحة ليست من الدين والإيمان، ويكذبون بالوعيد والعقاب بالكلية، فيؤمن أهل السنة والجماعة بأن فسّاق المسلمين معهم بعض الإيمان وأصله، وليس معهم جميع الإيمان الواجب الذي يستوجبون به الجنة، وأنهم لا يخلدون في النار بل يخرج منها من كان في قلبه مثقال حبة من إيمان، أو مثقال خردلة من إيمان، وأن النبي صلى الله عليه وسلم أدَّخر شفاعته لأهل الكبائر من أمته، وهم أيضاً في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم، وسط بين الغالية الذي يغالون في علي رضي الله عنه فيفضلونه على أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، ويعتقدون أنه الإمام المعصوم دونهما، وأن الصحابة ظلموا وفسقوا، وكفروا الأمة بعدهم كذلك، وربما جعلوه نبياً أو إلهاً. وبين الجافية الذين يعتقدون كفره وكفر عثمان رضي الله عنهما، ويستحلون دماءهما ودماء من تولاهما، ويستحبون سب عليّ وعثمان ونحوهما، ويقدحون في خلافة عليّ رضي الله عنه وإمامته.
وكذلك في سائر أبواب السنة هم وسط. لأنهم متمسكون بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وما اتفق عليه السابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، والذين اتبعوهم بإحسان انتهى.
{وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنتَ عَلَيْهَا} أي: ما شرعنا القبلة، كقوله تعالى: {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ} [المائدة: 103] أي: ما شرعها. و{التي كنت عليها} ليس بصفة للقبلة إنما هو ثاني مفعوليّ: {جعل} أي: وما جعلنا القبلة الجهة التي كنت عليها، أي: في مكة تستقبلها قبل الهجرة، وهي الكعبة. يعني: وما رددناك إليها إلا امتحاناً للناس وابتلاء. أو: {كنت عليها} بمعنى صرت عليها الآن. كقوله تعالى:: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ} [آل عِمْرَان: 110]. أو بمعنى كنت على تطلّبها، أي: حريصاً عليه، وراغباً فيه. كما يفصح عنه قوله تعالى بعد: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ} [البقرة: 144] الآية.
وعلى هذه الأوجه، فتكون الآية بياناً للحكمة في جعل الكعبة قبلة، أو معنى: {التي كنت عليها}: قبل وقتك هذا، وهي بيت المقدس. أي: إنما شرعنا لك التوجه أولاً إليه ثم صرفناك عنه إلى الكعبة ليظهر حال من يتبعك، حيثما توجهت، من غيره. فتكون الآية بياناً للحكمة في جعل بيت المقدس قبلة أولاً.
ثم اعلم أن الحكمة هو التمييز بين الناس بقوله: {إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرَّسُولَ} في كل ما يؤمر به، فيثبت عند تقلب الأحكام بما في قلبه من صدق التعلق بالله والتوجه له أيَّانَ ما وجهه: {مِمَّن يَنقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} أي: يرتد عن دينه فينافق، أو يكفر ممن كان يظهر الاتّباع. وأصل المنقلب على عقبيه: الراجح مستديراً في الطريق الذي قد كان قطعه منصرفاً عنه، استعير لكل راجع عن أمر كان فيه من دين أو خير.
قال ابن جرير: قد ارتد، في محنة الله أصحابَ رسوله في القبلة، رجالٌ ممن كان قد أسلم، وأظهر كثير من المنافقين من أجل ذلك نفاقهم، وقالوا: ما بال محمد يحوّلنا مرة إلى هاهنا ومرة إلى ههنا؟ وقال المسلمون، فيمن مضى من إخوانهم المسلمين وهم يصلون نحو بيت المقدس: بطلت أعمالنا وأعمالهم وضاعت. وقال المشركون: تحيّر محمد في دينه. فكان ذلك فتنة للمؤمنين وتمحيصاً للمؤمنين. انتهى.
لطيفة:
العقبين تثنية عقب وهو مؤخر القدم. والانقلاب عليهما استعارة تمثيلية، وهذه الاستعارة نظير قوله تعالى: {ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ} [المدثر: 23]، وكقوله: {كَذَّبَ وَتَوَلَّى} [طه: 48].
تنبيه:
قال الراغب رحمه الله: ما وجه قوله: {إِلَّا لِنَعْلَمَ} وذلك يقتضي استفادة علم، ولم يزل تعالى عالماً بما كان وبما يكون؟ قيل: إن ذلك من الألفاظ التي لولا السمع لما تجاسرنا على إطلاقها عليه تعالى، ومجاز ذلك على أوجه:
الأول: أن اللام في مثل ذلك تقتضي شيئين: حدث الفعل في نفسه، وحدوث العلم به، ولما كان علم الله لم يزل ولا يزال، صار اللام فيه مقتضياً حدوث الفعل لا حدوث العلم.
والثاني: أن العلم يتعلق بالشيء على ما هو به، والله تعالى عَلِمَهُمْ، قبل أن يتبعوه، غير تابعين. وبعد أن تبعوه عَلِمَهُم تابعين. وهذا الجواب هو في الحقيقة الأول؛ لأن التغيير داخل في المعلوم لا في العلم.
والثالث: معناه ليُعلِم غيرنا بنا. فنسب ذلك إلى نفسه. كقوله تعالى: {اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا} [الزمر: 42]، وفي موضع آخر: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ} [السجدة: 11]، وقال تعالى: {وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ} [النساء: 113]، وإنما علمه بملائكته.
والرابع: معناه لنجازي، وذلك متعارف، نحو قولك: سأعلم حسن بلائك، أي: سأجزيك على حسب مقتضى علمي قبل، فعبّر عن الجزاء بالعلم لما كان هو سببه.
والخامس: أن عادة الحليم إذا أفاد غيره علماً أن يقول: تعال حتى نعلم كذا، وإنما يريد إعلام المخاطب، لكن يُحله نفسه محل المشارك للمتعلم على سبيل اللطف. انتهى.
والوجه الثالث هو الذي اختاره الإمام ابن جرير قال: أما معناه عندنا: ما جعلنا القبلة التي كنت عليها إلا ليعلم رسول وحزبي وأوليائي: من يتبع الرسول ممن ينقلب على عقبيه.
قال: وكان من شأن العرب إضافة ما فعلته أتباع الرئيس، إلى الرئيس، وما فعل بهم، إليه. نحو قولهم: فتح عُمَر بن الخطاب سواد العراق وجبى خراجها، وإنما فعل ذلك أصحابه، عن سببٍ كان منه في ذلك، وكالذي روي في نظيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «يقول الله جل ثناؤه: مرضت فلم يعدني عبدي، واستقرضته فلم يقرضني» فأضاف، تعالى ذكره، الاستقراض والعيادة إلى نفسه، وقد كان ذلك بغيره، إذ كان ذلك عن سببه.
قد حكي عن العرب سماعاً: أجوع في غير بطني، وأعرى في غير ظهري، بمعنى جوع أهله وعياله وعري ظهورهم. فكذلك قوله: {إِلَّا لِنَعْلَمَ} بمعنى: يعلم أوليائي وحزبي.
{وَإِن كَانَتْ} أي: التولية إليها أو الجعلة أو التحويلة: {لَكَبِيرَةً} أي: ثقيلة شاقة؛ لأن مفارقة الإلف، بعد طمأنينة النفس إليه، أمر شاق جدًّا {إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللّهُ} قلوبهم، فأيقنوا بتصديق الرسول، وأن كل ما جاء به فهو الحق الذي لا مرية فيه، وأن الله يفعل ما يشاء ويحكم وما يريد. فله أن يكلف عباده بما شاء وينسخ ما يشاء، وله الحكمة التامة والحجة البالغة في جميع ذلك، بخلاف الذين في قلوبهم مرض، فإنه كلما حدث أمر، أحدث لهم شكاً. كما يحصل، للذين آمنوا، إيقانٌ وتصديقٌ. كما قال تعالى: {وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سورة فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة: 124- 125]. وقال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآَنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَاراً} [الإسراء: 82]. وقوله تعالى: {وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}. هذا تطمين لمن صلى إلى بيت المقدس من المسلمين، ومن أهل الكتاب قبل النسخ، وبيان أنهم يثابون على ذلك. وقد روى البخاري من حديث أبي إسحاق المتقدم عن البراء: وكان الذي مات على القبلة، قبل أن تحوّل قبل البيت، رجال قتلوا، لم ندر ما نقول فيهم، فأنزل الله: {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} [البقرة: 143]، أي: صلاتكم، وإنما عدل إلى لفظ الإيمان، الذي هو عام في الصلاة وغيرها، ليفيدهم أنه لم يضع شيء مما عملوه، ثم يصح عنهم، فيندرج المسؤول عنه اندراجاً أولياً، ويكون الحكم كلياً. وذكر بلفظ الخطاب دون الغائب، ليتناول الماضيين والباقين، تغليباً لحكم المخاطب على الغائب في اللفظ، وفي تتمة الآية إشارة إلى تعليل عدم الإضاعة، بما اتصف به من الرأفة المنافية لما هجس في نفوسهم من الإضاعة. ولما انطوى النبي صلى الله عليه وسلم على إرادة التوجه إلى الكعبة، لأنها قبلة أبيه إبراهيم ومفخرة العرب ومزارهم ومطافهم، ولمخالفة اليهود- أجابه الحق إلى ذلك بقوله: